فصل: فصل: (فيمَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَوَجَبَ بِالشَّرْطِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ]:

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ، لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ أَوْ مِنْ تَضَاعِيفِهِ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُ جَبْرًا وَحُبِسَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ. وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ جِزْيَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَوْلِ، وَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ: هَلْ هُوَ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لَا. فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْأَدَاءِ كَالْحَوْلِ فِي عَقْلِ الدِّيَةِ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَقَالَ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ، وَتُؤْخَذُ فِي أَوَّلِهِ، وَلَيْسَ الْحَوْلُ فِيهَا مَضْرُوبًا لِلْوُجُوبِ، وَلَا لِلْأَدَاءِ، وِإِنَّمَا هُوَ مَضْرُوبٌ لِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29]. فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ دُونَ الْحَوْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وُجُوبُهَا، وَلَا أَدَاؤُهَا، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ تُؤْخَذَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ضَمَانُهَا دُونَ دَفْعِهَا، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا ضَمِنُوا الْجِزْيَةَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ دَفْعِهَا.

.فصل: [إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَوَاتٌ]:

وَإِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَوَاتٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ كُلِّهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَتَدَاخَلُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا جِزْيَةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْأُجْرَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحُدُودِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِمَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ فِي يَوْمٍ ثَانٍ، لَمْ تَتَدَاخَلِ الْكَفَّارَتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ أَنْ لَا مَالَ فِيهَا، فَجَازَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالْجِزْيَةُ مَالٌ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالْمَالِ فِيهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَغَابَ الذِّمِّيُّ سِنِينَ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ، وَسُقُوطَ جِزْيَتِهِ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُبِلَ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِهَا عَنْهَا، وَأُحْلِفَ إِنِ اتُّهِمَ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ: لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ يَصِحُّ: لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.مسألة: الْمَقْصُود بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازُهُ وَإِضْعَافُ الْكُفْرِ وَإِذْلَالُهُ:

قَالَ الشَافِعِيُّ: وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَوْ دِينَ اللَّهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي، أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ: فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَأُحِلَّ دَمُهُ، وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةُ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُسْمِعُوا الْمُسْلِمِينَ شِرْكَهُمْ وَقَوْلَهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، وَلَا يُسْمِعُونَهُمْ ضَرْبَ نَاقُوسٍ، وَإِنْ فَعَلُوا عُزِّرُوا وَلَا يُبْلَغُ بِهِمُ الْحَدُّ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ وأقسامه تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِعْزَازُهُ، وَإِضْعَافُ الْكُفْرِ وَإِذْلَالُهُ: لِيَكُونَ الْإِسْلَامُ أَعْلَى وَالْكُفْرُ أَخْفَضَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، فَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى هَذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْمُورًا بِاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا يُؤْخَذُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ جِزْيَتِهِمْ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَوَجَبَ بِالشَّرْطِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ.
وَالْخَامِسُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ.

.[فصل فيمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ]:

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ مُؤَكَّدًا لَا مُوجَبًا فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29]. أَيْ يَضْمَنُوهَا.
وَالثَّانِي: الْتِزَامُ أَحْكَامِهَا بِالْإِسْلَامِ فِيمَا أَجَابُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَالصَّغَارُ: أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونُوا آمِنِينَ مِنْهُمْ كَمَا أَمِنُوهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، فَلَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ، وَقَعَدَ عَنْهُمْ بَعْضُهُمُ انْتَقَضَ عَقْدُ الْمُقَاتِلِ، وَنُظِرَ فِي الْقَاعِدِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَوِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ حكم أهل الذمة في هذه الحالة كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ سَوَاءٌ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنِ الْتِزَامِهَا أَوْ مِنْ أَدَائِهَا، وَإِنِ امْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ بَذْلِهَا نُظِرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنِ الْتِزَامِهَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ كَالْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْتِزَامِهَا لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ: لِأَنَّ إِجْبَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرٌ، وَإِجْبَارَ الْوَاحِدِ عَلَيْهَا مُمْكِنٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا، وَيَنْتَقِضُ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِهَا كَالْآحَادِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ.

.فصل: [فيمَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ لِتَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ بِطَعْنٍ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ، وَلَا إِزْرَاءٍ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ اللَّهِ بِذَمٍّ لَهُ، وَلَا قَدْحٍ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِدَمِهِ أَوْ مَالِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا، وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَلَا يُئْوُوا عَيْنًا لَهُمْ، وَلَا يَنْقُلُوا أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ تَجِبُ بِالشَّرْطِ، وَفِي وُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ تَأْكِيدًا، تَعْلِيلًا بِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، تَعْلِيلًا بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْجِزْيَةِ، لَكِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، لِتَحْرِيمِهَا وَظُهُورِ الضَّرَرِ بِهَا، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا، فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ لِلُزُومِهَا بِالشَّرْطِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ، لِخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ.

.فصل: [فيمَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَوَجَبَ بِالشَّرْطِ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَجِبُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا مَنَعُوا مِنْهُ: لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، فَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ، وَيَكُونُوا إِنْ لَمْ يَنْخَفِضُوا عَنْهُمْ مُسَاوِينَ لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً، وَلَا كَنِيسَةً، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُجَاهِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ، وَخَنَازِيرِهِمْ، وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا، وَلَا يُطْعِمُونَهُمْ خِنْزِيرًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمَسِيحُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُظْهِرُوا بِتِلَاوَةِ مَا نُسِخَ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَلَا يُظْهِرُوا فِعْلَ مَا نُسِخَ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِ نَوَاقِيسِهِمْ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْطِ: لِأَنَّهَا مَنَاكِيرُ لَزِمَ الْمَنْعُ مِنْهَا بِالشَّرْعِ، فَإِنْ خَالَفُوهَا، فَفِي بُطْلَانٍ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.

.فصل: [فيمَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ، لِتَطَاوُلِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِتَاقًا، وَهِجَانًا، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَالثَّانِي: تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ، بِلُبْسِ الْغُبَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ، لِيَتَمَيَّزُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلَافِ الْهَيْئَةِ، وَلِوَاحِدَةِ نِسَائِهِمْ إِذَا بَرَزَتْ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخُفَّيْنِ أَحْمَرَ، وَالَآخَرُ أَسْوَدَ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ نِسَاؤُهُمْ.
وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ أَثَرٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا دُورُهُمْ، فَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ رضي الله عنه بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ، وَلَا يُظْهِرُوا إِخْرَاجَ جَنَائِزِهِمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُظْهِرُوا عَلَى مَوْتَاهُمْ لَطْمًا، وَلَا نَدْبًا، وَلَا نَوْحًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا صِيَانَةً لَهَا مِنْهُمْ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوا مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، لِئَلَّا يُذِلُّوهُمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيَحْمِلُوهُمْ عَلَى الِارْتِدَادِ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ إِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ، وَفِي لُزُومِهَا إِذَا شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَلْزَمُ لِخُرُوجِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ وَمُنْكَرٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا عُزِّرُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَالَفُوهَا بَعْدَ الشَّرْطِ، فَعَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.

.فصل: [فيمَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِعَقْدٍ، وَلَا شَرْطٍ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى إِذْلَالِهِمْ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُعْلُوا أَصْوَاتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ فِي الْمَجَالِسِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُضَايِقُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا يَمْشُوا فِيهَا إِلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَا يُسَاوُوهُمْ فِي الرَّدِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: اضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُرُقِ، وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ. وَالْخَامِسُ: إِذَا اسْتَعَانَ بِهِمْ مُسْلِمٌ فِيمَا لَا يَسْتَضِرُّوا بِهِ أَعَانُوهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يَسْتَبْذِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِهَنِ الْأَعْمَالِ بِأَجْرٍ وَلَا تَبَرُّعٍ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ تُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ إِذْلَالًا لَهُمْ، فَإِنْ خَالَفُوهَا لَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ، وَأُجْبِرُوا عَلَيْهَا، إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ عُزِّرُوا.

.فصل: [فيمَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ وَلَا يَنْتَقِضُ]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ، وَلَا يَنْتَقِضُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ عَهْدُهُمْ أُخِذُوا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلٍ، وَلَزِمَهُ مِنْ حَدٍّ، وَقُوِّمُوا بِهِ مِنْ تَأْدِيبٍ، وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، نُظِرَ حَالُهُمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ، فَإِنْ قَاتَلُوا بَطَلَ أَمَانُهُمْ، وَكَانُوا حَرْبًا يُقْتَلُونَ، وَيُسْتَرَقُّونَ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُونَا فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ بِانْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ: لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي عَقْدٍ، فَالْتَزَمْنَا حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ. وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ من أهل الذمة: أثره أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَزِمَ أَنْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُوا بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِمْ حَرْبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنَ الْأُمِّ أَنَّ أَمَانَهُمْ قَدْ بَطَلَ: لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَهْدِ، فَبَطَلَ بِانْتِقَاضِهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ صَارُوا بِبُطْلَانِ الْأَمَانِ حَرْبًا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْأَسْرَى إِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْمَنُّ، أَوِ الْفِدَاءُ، فَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَهَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقُّوا، وَيُفَادَوْا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ الْأَسِيرِ الْمُحَارِبِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ: لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَمَانًا مُتَقَدِّمًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسِيرِ، فَصَارَ حُكْمُهُمْ بِهِ أَضْعَفَ وَأَخَفَّ مِنَ الْأَسِيرِ. فَأَمَّا أَمَانُ ذَرَارِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ: لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ فِي لُزُومِهِ، فَكَانُوا تَبَعًا فِي بُطْلَانِهِ، فَيَصِيرُوا سَبْيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:- وَهُوَ أَظْهَرُ- أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِبُطْلَانِهِ فِي غَيْرِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْبَوْا، وَيَجُوزَ إِقْرَارُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِدَارِ الْحَرْبِ أُعِيدَ الصِّبْيَانُ: لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَبْلُغُوا، ثُمَّ يُخَاطَبُوا بِالْجِزْيَةِ، فَإِنِ الْتَزَمُوهَا اسْتُؤْنِفَ عَهْدُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا بَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الصِّغَارُ وَطَلَبَهُمْ أَهْلُوهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ طَالِبُهُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِحَضَانَتِهِمْ أُجِيبَ إِلَى رَدِّهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِحَضَانَتِهِمْ مُنِعَ مِنْهُمْ.